بسمه تعالى ..
سلام وتحية عذبة؛؛..
في يوم من الأيام .. في عصر من العصور .. أو زمن من الأزمنة ..
كان برفقة أصدقائه في إحدى الحدائق ؛ ونهض برهة ثم عاد إليهم يحمل وعاء تتدلى منه عناقيد العنب ..
رجفت يداه فجأة فسقط الوعاء وانكسر ..
تراجع خطوتين للوراء هلعاً ..
فالرجفة مباغته دون سابق إنذار أو داعٍ ..
صاح احدهم :انكسر الشرّ .. سلامات ..
وقال آخر بريبة وتوجس : أهناك من يعزّ عليك ؟
أجاب بشرود : نعم ! .
فقال له : إذن حاول الاتصال عليه لتسأل عنه !
ردّ مستفهماً : ولمَ ؟
تردد قليلاً ثم قال : ارتبط في ذهني إن انكسار الصحن يعني إن هناك سوء جرى لمن أحبّ .
فوراً تراءى أمامه صورة لخيال خطيبته تتخايل بين مقلتيه .
هزّ رأسه وكأنه ينفض فكرة سوداء ؛؛ أو كأن حديث صاحبه لم يروق له .
لحظات و رنّ هاتفه النقال .. كان المتصل أخيه فتجاهل المكالمة ولم يرد عليه ..
رنّ هاتفه مرة أخرى فكان صديقه ؛أيضاً تجاهله ولم يردّ عليه ..
حينها أحس بوخز في جسده ؛تبدلت أحواله وتغيرت ألوانه ؛فأخذ يقبض يده ويبسطها ..
صاح أحد رفاقه به : مابك تبدو غريب الأطوار ؟
- أشعر بوهن في كل عضلاتي .. أشعر بــ ....
رن الهاتف مرة أخرى .. قذفه بعصبية ..
وبتردد سحبه احدهم ليردّ على المكالمة .. وقبلها ضغط على زر الميكرفون .
- نعم !
- أين (..........)؟
- موجود.
- امممممم
- هل من خطب ؟
- لا أعرف ولكن !!
- ولكن ماذا !
-اخبره بأن خطيبته (..........) لقت حتفها في حادث مروري ؛؛وهي الآن في المُغتسل !
طوط طوط طوط .. انقطع الخط!
الأنظار مصّوبة نحوه وهو ينظر إلى الوعاء المكسور وشظايا الزجاج ..
أُلغيت حواسه وجوارحه ؛وتوقفت رداة الفعل ..
هزّه احدهم ..
فانسكبت دموعه .. صرخ بقوة .. اتهمهم بالكذب ..
سحب مفاتيح سيارته لحقه أحدهم !
ضربه على صدره : ابعد عني دعني اذهب .. سأموت إن لم أراها ..
-لن أدعك تذهب بمفردك.-وأخذ منه المفاتيح عنوة -..
وصلا حيث المُغتسل ..
جذبه رفيقه من طرف كمّ ثوبه برفق : أرجوك لاتفكر في الدخول.
سحب نفساً عميقاً حاول أن يتماسك وفي داخله زلازل وأعاصير ..
تقدم وطلب منهن الدخول.
صاحت امرأة: بصفتك من ؟
ترقرقت الدموع من عينيه : أتوسل إليكِ .. إنها خطيبتي ..
أفسحت له المجال ..
نسوة مجلجلين بالسواد .. يصرخن ويبكين .. وهناك في البعيد جسد مسجي ملفوف بالبياض ..
أقمر يتوسط عباءة السماء .. أم طفلة رضيعة جميلة في القماط !!!
جرّ قدميه جرّاً وكأنهما تدعوه للإدبار لا الإقبال ..
خطوات وئيدة خال إليه بأنه وصل إليها بعد مسابقة عدو طويلة ..
وصل إليها تفرس في ملامحها .. قلبه يعلو ويهبط .. إنها هي ..
فسقط على جثتها منتحباً..
أخذ يبكي بقوة .. رفع رأسها ووضعه في حِجره .. همس لها بكلمات ممزوجة بالدموع .. أخذ يهزها من كتفيها بعنف وكأنه يدعوها لتفتح عينها .. كأنه يرغم قلبها على النبض ..أو يدعوها لأن تمسك بأذيال روحها من جديد ..
قال لها : كنت أحلم بأن أضمك إلى صدري ؛ بأن أحصنّك في حدودي ولكن ليس في هذا الموقف !
ألم تخبريني بأنكِ لن تتركيني !
أين الوعود والعهود؟
لماذا توأدين الأحلام قبل تمخضها ؟
وتقتلين الآمال قبل ولادتها ؟
ثم ألم تقولي بأنكِ كنتِ تتمنين أن نموت في يوم واحد !
ها انتِ ترحلين وتتركيني!
هزّها مرة أخرى قال لها قتلتني ؛؛..
ثم دنى من جديد لأُذنها تحدث بكلمات لم اسمعها فقد كانت للهمس اقرب .
جاءت امرأة من البعيد كانت قريبته .. أمه ..أخته .. خالته .. عمته لااعرف تحديداً ..
أمسكته من رسغه نهرته ؛واستدارت للنسوة بعصبية : من سمح له بالدخول !
الجميع في صمت مطبق وكأن على رؤوسهن الطير ..
أصرّت على قيامه ..
طبع قُبلة أخيرة على جبينها ؛ سحبته قريبته من يده هي أمامه وهو خلفها ؛ورقبته مستديرة نحو حبيبته ؛؛ وقبل أن يخرج استند على الحائط المجاور لباب المغتسل ورمقها بنظرة أخيرة فانهار مرة أخرى وأخذ يسقط شيئاً فشيئاً ..
تمتم بكلمات بين الوضوح والغموض .
وقال وهو يخبئ وجهه بين راحتيه والدموع تسيل من بين أصابعه : هاهي غادرت .. وبقيت وحيداً .. رحلت بعد أن زرعتني شتلات في طريق الأمل .. رحلت بعد أن نسجت لي حلماً طرزته بخيوط الشمس .. رحلت بعد أن رسمتني لوحة على جدار القمر .. وبعد أن توجتني أميرها بالنجوم الملونة .. رحلت وذوت أزهار الياسمين على شرفتي .. وأخرست طيور الحب من على نافذتي .. وكممت بيديها فصل الربيع وألغته من حياتي .. رحلت .. غادرت .. وبقيت أنا !
لماذا ؟ لماذا أبقى ! أي هدف ؟ أي حياة ؟ أي شيء يستحق أن أبقى لأجله ..!
فتح الباب وتلقفه رفيقه من جديد احتضنه ولسانه يعجز عن كلمة مواساة ..
فجميع أصحابه يعرفن كم يحبها ويقدّسها ويبجلّها .. يعرفون جيداً مقدار حبها العظيم الذي يسكن حنايا قلبه .. !
دقائق وحملوها إلى المقبرة ..
ظلام .. وحشة .. وصوت الجنادب يخلق شيئاً من الاستفزاز ..
ارتفعت أصوات التهاليل .. والتكبيرات من تحت الجنازة ومن خلفها ..
كان يمشي الهوينا مع صاحبه الذي يسنده ..
كبّر الإمام وصلى عليها ..
وحينما أنزلوها في قبرها تقدم ووقف على شفير قبرها ..
وما أن همّ الحفّار لإهالة التراب عليها حتى سقط صاحبنا في القبر على جسدها ..
ارتطم رأسه بصخرة على حافة القبر فشُجّ رأسه وانبثق الدم حتى تبقع الكفن الأبيض الناصع بدمه الأحمر القاني ..
انتشلوه وذهبوا به مسرعين إلى المستشفى ..
بينما همّ آخرون لانتشال الجثة لتغسيلها من جديد وتغيير كفنها ..
وهناك قالت الممرضة بشأنه بكل أسى : عملت له تنفس صناعي وتخطيط للقلب وإسعافات أولية .. ولكن .. إذا حلت المقادير بطلت التدابير ؛.
هكذا كانت النهاية .. نهايته بعد أن بصم على كفنها بدّم عروقه ؛؛ بالدم الذي يضخه قلبه..
وهناك خلف ستار القبور سيكون لقاء بعيداً عن تطفل العيون الفضولية ..
ستكون حياة مجهولة تقصر عن معرفتها عقول البشر ..
هناك تحت القبرين المتجاورين انولدت أسطورة لازلت ابحث عن سرّها .
وأتوق كثيرا لمعرفة تفاصيل لقائهما من جديد بعد رحيل الأحبة والأصحاب وإطفاء الأنوار واغلاق باب المقبرة ...
-هذا ماشهدت .. وكان حلماً .....
تحياتي فاطِمة فتح الله ..