الليلة ذكرى زواج الرسول ص من خديجة ام الزهراء عليهما السلام..
العلل الظاهرية والحقيقة وراء زواج السيدة خديجة (عليها السلام) بالرسول محمد (صلى الله عليه وآله)
يجبُ أن نتساءل في بادئ الأمر هل إن هناك عللاً، أسباباً كما عرفتها اللغة وراء زواج السيدة خديجة (عليها السلام) بالرسول محمد (صلى الله عليه وآله) ومن أجل أن نقفَ على تلك الأسباب لابدَّ لنا من دراسة هاتين الشخصيتين من خلال استقراءٍ لسيرة حياتيهما فحينذاك ستتوضح لنا الأسبابُ كوضوح الشمس في رابعة النهار.
فالرسول (صلى الله عليه وآله) ولد يتيماً وترعرع في كنف جده عبد المطلب لعامين بعد وفاة أمه ليتكفله عمه أبو طالب فكان يمثلُ امتداداً امتداد لذلك الرعيل الذي آمن بأن لا حياة إلا لمرفوعي النواصي فهو سيدُ قريش مكانةً وزعامةً ولم يكن غير امتدادٍ لتلك القوة الجبارة منتقلةً إليه من أبيه وجدهِ هاشم ليستودعها في أبنائه، تدرج رسول الله من راعي غنم إلى رفيق أسفارٍ مع عمه... من غلامٍ يحجبُ سنى طلعته الفقر إلى فتىً يُستسعى الغمامُ بوجهه.
كُشف في أحد أسفاره لعمه أبي طالب عنه، فقد أخبرهُ (بحيرا) الراهب لما سيؤول إليه فتاه (فالشمسُ على يمينه والقمر على يساره) فهو ذو شأن عظيم.. فنشأ (صلى الله عليه وآله) وجيهاً مهاباً وقوراً صادقاً أميناً فلقب بها قبل أن يدعو الناس لربه.
تنازع القومُ على من يضعُ الحجر الأسود عند إعادة بناء مكة فكادوا يتقاتلون لولاهُ فحكم بينهم وانتهى الأمرُ بأن أخذ كل منهم بطرف الرداء لحمل الحجر ووضعه في مكانه فكان ديدنه هذا حتى طبقت صفاته الحميدةُ الآفاق.. كلُ ذلك كان قبل أن يعرفوه نبياً داعياً لرسالة السماء.
هذا بعضٌ من سيرته (صلى الله عليه وآله) قبل البعثة النبوية الشريفة فلنَر من هي خديجةُ بنت خويلد (عليها السلام) قبل الإسلام. إن تاريخ النساء لعاجزٌ حقاً أن يأتي بامرأةٍ كخديجة.. حيث لم تحفظ لنا ثناياهُ أن امرأءة فاحت سيرتها بالعطاء والعفاف مثلها.. نعم اشتهرنَ بجانبٍ واحد من الفضيلة وبلغن منه القمة ولكنها بالغةٌ لققم الفضائل كلها فهي سعيدةٌ بما بلغته في دنيا التجارة التي آلت ثروتها إليها من أبيها حيث توفيَّ في معركة الفجار (سميت هكذا لوقوعها في الأشهر الحرم) ولكن حياتها لم تكتمل فكان قلبها يرنو إلى حياةٍ زوجيةٍ رفيعة فيها سموُّ وبذلٌ وتضحيةٌ وكفاحٌ في سبيل تحقيق غايةٍ سامية ونبيلة.. فهي سيدةُ نساء قريش عاليةُ الهمة جياشة العواطف واسعةُ الأفق مفطورةٌ على التَدين والنقاء والطهر وقد عرفت بالطاهرة بين أترابها من النساء.
رأت فيما يرى النائم شمساً عظيمة تهبط من سماء مكة لتستقر في دارها وتملأ جوانب الدار بالنور والبهاء.. وقد فاض ذلك النور من دارها ليعمرُ كلَّ ما حولها بالضياء هبت من نومها إلى ابن عمها الضرير الكاهن الموحد ورقة بن نوفل تقصُ عليه رؤياها لعلها تجدُ عِنده مبتغاها ... وما أن انتهت من كلامها حتى تهلل وجهه بالبشر قائلاً: أبشري يا ابنة العم لو صدق الله رؤياك ليدخلن نورُ النبوة دارك. وليفيضنَّ منها نور خاتم الأنبياء.
تحركت في ذهنها أشياء بدأت تتوضح.. بدأت تنقشع غيوم الغموض عن ذاكرتها. فورقةُ عنده علمٌ من الكتاب. سألته عما يعرفه عن خاتم الأنبياء وصفاته وأحواله وهو يجيب في هدوء العارفين. فاختزنت كل ما ذكره لها في ذاكرتها وظلت تعيش (رضي الله عنها) على رفرف الأمل وعبير الحلم، فعسى أن تتحقق رؤياها. فعقلها كان يستوعب كل ما حولها من أحداثٍ بشكلٍ يتفق مع حياتها. وهي مستمرة على رفض كل من يتقدم لخطبتها من سادات قريش. لأنها كانت تقيسه بمقياس الحُلُم الذي رأته والتفسير الذي سمعته من ابن عمها. فلم تنطبق تلك الصفات على الذين تهافتوا للاقتران بها.
كانت تردُهم رداً جميلاً تخبرهم إنها لا تودّ الزواج. وكانت تحسنُ بأن القدر الإلهي يخبئ لها شيئاً. لا تدري ما هو لكنها تستشعر بالطمأنينة قد دخلت قلبها.. وملكت حواسها.
بعد ألف وأربعمئة عام نأتي لندلو بدلونا من خلال استقراءات متباينة لباحثين عن الحقائق مثلنا أو لعابثين وضعوا ما رواه يخدم أسيادهم ومصالحهم فمضوا وأبتلينا بالخلاف على ما دَونوهُ هو صحيح بسنده وكلنا يعلم أن الانحرافات بدأت منذُ أن أعلن معاوية الخروج على علي (عليه السلام) فكيف بنا ندرك الحقائق كما هي والقوم بين مادحٍ وقادح... منذ ذلك الحين.. فلابد من الموضوعية أولاً والحصافة في التدقيق والنية الخالصة لعلنا ندركُ بعضاً مما فقدناه.
يقولون إن خديجة امرأة تاجرةٌ هي بحاجة إلى رجل أمين لتنمي من خلاله تجارتها لتزداد ثروتها، فوجدت ضالتها بمحمد الصادق الأمين فعرضت نفسها عليه. وهو الآخر نزعت نفسه لها لأنه يعلمُ بغناها وثروتها فتقبل العرض برغم فارق السن بينهُ وبينها.
ولكن لو تصفحنا الذاكرة الإنسانية لرأينا أن هناك أسباباً لا تمتُ للماديات بصلةٍ دفعت الرسول للاقتران بها. وقبول عرضها ودفعتها هي الأخرى للإصرار عليه دون سادات قريش الذين طلبوا ودَّها.
ومن تلك الدوافع ما ذكرناه آنفاً وما سنذكره لاحقاً فلقد كان بيتُ خديجة كعبةً يؤمها المساكين والمحرومين فلماذا نستكثرُ عليها تربيتها لبنات أختها بعد وفاة شقيقتها ومحمدٌ نفسه تبناهُ عمهُ أبو طالب وهو (صلى الله عليه وآله) تبنى زيد بن حارثة فيما بعد حتى لحق باسمه فسمي زيد بن محمد فلقد انكروا على النبي محمد دينه فرجموه ورجموا من أحبه بغضاً وزيفاً للنيل من قداسة دينه وشخصه الكريم.
ومن تلك التُرهات التي ذكروها لنا في كتبهم أنها (رضوان الله عليها) عند موت أحد من أولادها توجهت لآلهتها الأصنام تسألها ما بالها لم تشملها برحمتها وقد رد د. محمد حسين هيكل مدافعاً عن الصديقة الطاهرة بقوله: (إن هذا الكلام لا يستندإلى أي دليل تاريخي وليس بالتالي إلا حدسٌ باطل وادعاء فارغ) ونقول إن القياس على العامة هو خطأ تداوله الكتاب دون بحثٍ وتمحيص فلأن القوم عبدةُ أوثانٍ أصبحت السيدة خديجة منهم. فلم لم يقرنونها بابن عمها الكاهن الموحد؟ فإن ما ذهب إليه هؤلاء ما هو إلا للنيل من شخصيتها العظيمة وإيمانها الراسخ بالله. وهذا نفسه ينطبق على مقولة زواجها. وقد جعلوهما زوجين قبل رسول الله لتثبيت ما رامواه للنيل منها. بغضاً وحسداً فلماذا نستكثر على خديجة (عليها السلام) عزوفها عن الرجال حتى بلغت سن الأربعين فكم بيننا الآن وفي زماننا هذا من تركن أمر الزواج وعزفن عنه لانهن لم يجدن الكفء لهن ولماذا نلصق بها زواجها باثنين؟! ثم يعود الكاتب نفسه ليقول مناقضاً ما أورده بأنها امتنعت عن قبول سادات قريش الذين طلبوا يدها وردتهم رداً جميلاً... أليس هذا ما يجعلنا نتأكد بأن الحقائق كالشمس لا يحجبها غربال. وهذا ما بانَ جلياً من خلال تناقض أحاديثهم حولها.
لقد نشأ رسول الله ورعاً فاضلاً رشيداً بعيداً عن الترف والضياع في المنزلقات الدنيوية والشهوات. تلوحُ على محياه آثار التفكر والتأمل؛ يلبث أياماً متفكراً في آثار القدرة الإلهية وعظمة الصانع البديع.
وذكر أهل الأخبار
إنه كان لنساء قريش عيدٌ يجتمعن فيه عند الحرم وفي أحد الأعياد خرجت خديجة من بيتها نحو الكعبة ثم طافت بالبيت العتيق وراحت تبتهل إلى الله وتدعوه في صدقٍ أن يحقق لها حلمها ثم انطلقت نحو نسوة كنُ بالقرب من الكعبة، وجلست معهن يتجاذبن أطراف الحديث وطرائق الأخبار. وفي تلك الساعة قطع أصواتهن صوت صارخ من اليهود وقف بالقرب منهن قائلاً بصوت عالٍ: يا معشر نساء قريش... فالتفتت النسوةُ إليه وأصخن السمع له فقال: يا معشر نساء قريش إنه يوشك فيكن نبي. فأيتكن استطاعت ان تكون فراشاً له فلتفعل ويبدو أن نسوة قريش، حسبنه يهذي فرماه بعضهن بالحصباء. وأخريات بسيل من الشتائم والسباب وطردنه من ذلك المكان أما خديجة فقد خفق قلبها في شدة وأعاد إلى ذاكرتها رؤياها للشمس. وبشارة ابن عمها لها.. وان ما حدث ليس مصادفةً وقد أشار أهل الكتاب من اليهود والنصارى بنئواتهم عن مولد النبي محمد ومبعثه فكلها مدونة لديهم، فهم يتحدثون عن أخباره وأحواله وأوصافه ونعوته اعتماداً على ما ذكرته كبتهم المقدسة وتناقله أخلافهم عن أسلافهم من التَنويه بذكره والتصريح باسمه ودلائل وجوده مما لا يقدم على إنكاره إلا ممارٍ مكابرٍ أو معاندٍ جاحد.
وقد روي البيهقي وأبو نعيم الأصبهاني عن حسان بن ثابت شاعر الرسول قال: إني لغلام ابن سبع سنين أو ثمان أعقل ما رأيت وسمعت، وإذا بيهودي يصرخ ذات غداة: يا معشر اليهود فاجتمعوا إليه - وأنا أسمع - فقالوا: ويلك ما لك؟
قال: قد طلع نجم أحمد الذي يولد به هذه الليلة.
أقول هذا كله كان يجري على مسمعٍ من خديجةٍ لأنه حدث في بيئتها وواقعها اليومي فلقد عرفت خديجة كل شيء من خلال الأحاديث المتداولة. وهي كانت عالمة على بصيرة من أمرها. بالغة رشيدة فقررت الاقتران به لما بلغها عنه من نبوءة الحبر في الكشف عن ظهره والأخبار بأنه خاتم الأنبياء وقوله: (طوبى لمن يكون له بعلاً وان صفاته في التوراة إنه المبعوث نبياً في آخر الزمان، و(مَيسرة) وشهادته لديها عند مرافقة لرسول الله في تجارتها إلى الشام وبما سمعه من راهب الدير في الطريق وشمائله الكريمة وعظيم أخلاقه إلى أن قالت: (حسبك يا ميسره لقد زدتني شوقاً إلى محمد) اذهب فأنت حرٌ لوجه الله وزوجتك وأولادك، ولك عندي مائتا درهم وراحلتان.
ثم أخبار ورقة بن نوفل لها وهو ابن عمها وكان من كهان قريش قرأ صحف شيتٍ وإبراهيم (عليهما السلام) والتوراة والإنجيل والزبور. وفيها ما يؤكد ظهور نبي من قريش وتنبأ لها قائلاً: (يا خديجة سوف تتصلين برجلٍ يكون أشرف أهل الأرض والسماء.) هذه من أهم الأسباب التي جعلت خديجة تعزف عن الزواج من سادات قريش وتعلقها بمحمد وعرضها لنفسها عليه فهي كانت حنيفية موحدة لله قبل بعثة الرسول مؤمنة بأنه خاتم الأنبياء والمرسلين فعرضت نفسها عليه قائلة: (يا ابن عم أبي قد رغبتُ فيك لقرابتك وشرفك وأمانتك وحُسن خلقك وصدق حديثك).
وفي رواية أخرى أن (نفيسة بنت عُليّه) بلغت رسالتها للنبي عليه الصلاة والسلام قائلة: (يا محمد ما يمنعك أن تتزوج. ولو دعيت إلى الجمال والمال والشرف والكفاءة ألا تُجيب؟)
فرد عليها (صلى الله عليه وآله) قائلاً: (فمن هي؟).
قالت: خديجة.
فأعلن لها عن موافقته لمعرفته من تكن خديجة.
لقد عرفها (صلى الله عليه وآله) واسطة العقد من نساء قريش باسطة يدها بالرحمة كريمة لمن قصدها وقد أثكلته الفاقة، متوقدة الذهن عالمة بقومها عارفة بالرجال فكانت تسخرهم لتجارتها. فخبرت معادنهم فلم يهفو قلبها لأحدٍ منهم سواه (صلى الله عليه وآله) فقد رأت فيه فتاها لما عرفتهُ عنه، سابغُ العطفِ، لطيف المعشر حليمٌ كريم، الرحمةُ والمروءة تفيضُ من جانبيهِ فكانت كل خصائصِ الفضل مجتمعةً فيه فكيف تعدوه لغيره، انتظرت منه أن يبدأها بطلبِ يدها ولكن العُسرة حالت دون ذلك فعرضت نفسها عليه. وفي المقابل كان هو تواقاً لتلك اللحظة إذ إنه (صلى الله عليه وآله) عرف سجاياها الحميدة وفراستها ونجابة رأيها، حازمة عاقلة، حسنة التصرف قد خبرت الحياة. وكان على يقينٍ بأن سواها لم تكن لتحمل معهُ ثقل الرسالة التي يحملها بين دفتيه فقد عرفها مؤمنة دون ان تصرح له بذلك ولكن شمائلها ونقاء سريرتها كانا ينبئآنه بذلك. وقد ظهر هذا جلياً بعد زواجها من رسول الله الذي آمنت به إيماناً راسخاً إذ كذبه الناس وتحملت ما لا يتحمله الكثير من الرجال في بداية الدعوة الإسلامية وصبرت لأجله على المكاره مضحيةً بأموالها وراحتها في سبيل الله وإعلاء كلمته ليشرق نوره على الوجود فكان (صلى الله عليه وآله) يكن لها الاحترام الكبير لما أولته من الرعاية له في محنته قبل البعثة وبعدها فلقد كان اقترانه بها تسديداً ربانياً وليس هنالك مَنْ يضحي هذه التضحية الكبيرة بالمال والحال دون أن يكون مخلصاً في بذله مؤمناً بمن أخذ بيده إلى هذا المآل.
فكانت خديجة امرأة هذا الطراز نادرة المثال في الصفاء والنقاء. وعرفت بفطرتها الأصيلة قدر محمدٍ وجلال مقامه عند الله، فقد عرف ربه قبل أن يُبعث وأشرق قلبه بأنوارٍ يسرت له مشاهدة ما وراء حواسه فاستوى بصرهُ وبصيرته.. فاختارها عارفاً بفضلها وعلمها بما وراء الحُجب، خففت عن رسول الله الكثير من الآلام ما كان لأنثى غيرها ان تبذل لهُ من نفسها في إيثارٍ نادرٍ ما أعدهُ لتلقي رسالة السماء، فكانت تؤآزره في الاستعداد لها وتروّحُ عن قلبه الهموم وتذهب عن صدره الأحزان بطيب الكلم ومالها من كياسة وفطنةٍ وبما وهبا الله من رفقٍ ولينٍ وقابلية كبيرة في تحمل الصعاب والصبر والتضحية من أجل سيدها هكذا اعتبرته من خلال الاستقراء لسيرتها العظيمة مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) ناهيك عن خُلقها الذي كان منبع فيض الخيرات لكل من أراد أن يقتدي بها من النساء على مر الدهور، ازدادت إعجاباً بزوجها فكانت تكرم من يحب وهواها دائماً مع من يكون هواه، فوجدانه وقلبه لله ومن كان لله كان الله له.
لعلنا قد أدركنا أسباب الرابطة المقدسة التي توثقت باقتران سيد المرسلين (صلى الله عليه وآله) بخديجة الكبرى (عليها السلام) فما كان أحدهما يبحث عَن سلطانٍ أو مال، كانا يبحثانِ عن سموّ الناس بالتوحيد فالكثير من صفات محمدٍ (صلى الله عليه وآله) كانت في خديجةٍ قبل ان تسمع به أو يسمع بها، ومن خلال ما تقدم باعتقادنا قد أنجلت الغُبرة عن الصورة الناصعة الزاهية لاقتران سيد الخلق أجمعين (صلى الله عليه وآله) بأم المؤمنين خديجة الكبرى (عليها السلام).
المصادر:
1 - نساء أهل البيت، أحمد خليل جمعة.
2 - سيرة آل بيت النبي الأطهار، مجدي فتحي السيد.
3 - المراجعات، الإمام شرف الدين.
4 - محمد، واشنطن ايرفنغ / ترجمة دهاني نصري.
5 - سيد المرسلين ج1، الشيخ جعفر السبحاني.
6 - أعلام النساء.