السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..
تشكل المثيلوجيا جانباً مهماً في حياة الشعوب منذ آلاف السنين، ولقد عاش الإنسان وهو يحمل معه الأسطورة عن كل شيء في حياته، مبتدئً بالمعبود إلى كافة صور الحياة من أجل إيجاد صيغ معينة لتفسير ظواهر وجوانب الغموض والدهشة والقوة في آن معاً.
ويعتبر الإيمان بالأساطير شأناً إنسانياً صرفاً ينتج في الغالب من الخوف والجهل بالبيئة والمحيط الذي نعيش فيه، إضافة إلى كون الإنسان مفطوراً في البحث عن إيجاد أسباب وتفسيرات ومبررات لكل ما يدور حوله، فإذا أعيته الحيلة عن كشف الغموض لجأ إلى خلق الأسطورة من أجل أن يفسر بها الظواهر والحوادث كي يكبح لجامه الفضولي للمعرفة.
لقد بقيت الأساطير ردحاً من الزمن، ولربما أخذت أبعاداً وأنساقاً مختلفة ومغايرة عما كانت عليه، نظراً لتطور العقل البشري، فبعد أن عم الإسلام أرجاء المعمورة طمست كثير من الخرافات والأساطير، ولكنها لم تتلاشَ تماماً في المجتمعات بل بقي الكثير منها حتى هذا العصر وتحديداً عند أجيال سابقة فيه، ولربما اختفت الأسطورة عند الجيل الحالي وبقيت طقوسها تمارس يوما بعد يوم، فلا تحدث حادثة من الحوادث التي لا نجد لها تفسيراً منطقياً إلا وألصقناها بالجن والعفاريت أو بمخلوقات فضائية كما يحلو للبعض في عصر التكنولوجيا والمعلومات، أو أي تفسير مثيلوجي آخر ينسجم ويتناسب مع ميولنا الفكرية والثقافية وإيحاءاتنا السيكولوجية المختلفة.
ففي الوقت الذي كانت الحوتة تأكل القمر في حال الخسوف سابقاً، وجدنا صوراً لبعض الشخصيات الاجتماعية مطبوعة على قرصه تطالعنا ليلاً، وهذه صيغة تنسجم وتطرب لها نفوس البعض من السذج.
كانت تلك مقدمة لا بد منها في بحثنا حول مسجد الخضر (ع)، الواقع في جزيرة تاروت بين مثلث بلدة تاروت وسنابس ودارين محاذياً لبلدة الربيعية من الجنوب، في المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية، وهو مسجد قيل في حقه الكثير من الأساطير والخرافات التي لا يقرها دين ولا يقبلها عقل في الغالب، إذ يقال بأن الخضر يطير مساء كل ثلاثاء ويستشهدون عليه بهالة من النور في السماء، التي لا أرى أنها ليست أكثر من شهاب عابر أو أي جرم سماوي آخر.
وروى أحدهم بأنه كان ماراً بالقرب من المسجد ليلاً فشاهد من خلال نوافذه أنواراً غريبة، حيث تكمن غرابتها كونها في منتصف الليل ولما حاول أن يدخل وجد أن باب المسجد مقفلاً وكان في ذلك الوقت خائفاً فغض الطرف منسحباً بعد أن سمع صوت هدير خفيض جداً.
وليس مستغرباً أن نعرف أن هذه الخرافات وغيرها موجودة في الكويت حول مسجد الخضر الموجود في جزيرة فيلكه، حيث يعتقدون أن الخضر (ع) يقيم في كربلاء ولكنه يطير مساء كل ثلاثاء إلى مكة ويستريح في مساء ذلك اليوم في مسجد الخضر بفيلكه، وإذا ما أرادت امرأة أن تحمل بولد وهي عاقر، فعليها أن تقضي ليلة الثلاثاء بالصلاة والعبادة في المسجد حتى يستجاب لها وتلد.
ويشاع في هذا الموضوع أن بعض الدول الإسلامية مثل تركيا والبحرين وغيرهما من دول العالم الإسلامي لديها مساجد باسم الخضر وتحظى بعضها بنفس الخصوصية وإن اختلفت بعض الأساطير والأطروحات في هذا الأمر.
والظاهر أن الاتفاق في كون مساجد الخضر لا تبنى إلا في مواضع خاصة هي مواضع وطأها الخضر برجليه يتناسب مع وجود البساتين حول تلك المساجد، حيث يعتقد أن أي موضع تطأه قدماه يتحول إلى جنة مخضرة، ويعتقد أيضاً أن أي مرتفع قريب من البحر هو موضع للخضر وهو أمر يعتقده كثير من الناس خصوصاً عندما نقارن وجود مسجد الخضر في تاروت مع مسجد الخضر في فيلكه ووقوعهما في جزيرتين مع وجودهما فوق تلال ركامية في مواضع قريبة جداً من البحر.
يعتقد أهالي جزيرة تاروت أن في جزيرتهم ثلاثة مساجد اتفقوا على أنها مباركة ولها قدسية وخصوصية معينة، هي مسجد الخضر، ومسجد الشيخ علاء، ومسجد الشيخ محمد المبارك، ولربما اختفت خصوصية المسجدين الأخيرين وبقيت خصوصية مسجد الخضر ولا زالت مستمرة، ومع تقلصها و تغير نظرة الناس نظراً لتغير الظروف والطقوس التابعة لها، إلا أن شيئاً من الوهج والقداسة لازال يحيط بالمسجد مع كل ذلك التغير، فالناس قبل ما يقارب الـ(25) عاماً عندما كانت الكتاتيب تخرج مجموعة من حفظة القرآن كان الاحتفال بهذا التخرج لا يتم إلا هناك، حيث يتوافد الكثير من الناس في موسم معين مع ذويهم ومعلماتهم ومعلميهم فتذبح الذبائح وتحضر الولائم لهذا الشأن العظيم، وفضلاً عن ذلك فإن النذور التي يقيمها الناس سواء من أبناء الشيعة في جزيرة تاروت وبعض مناطق القطيف أو من قبل أبناء السنة في درين والزور، لم تكن تتوقف في يوم من الأيام، وغالباً كانت تشكل نوعاً من المهرجانات العامة التي يحيونها بنوعٍ خاصٍ من الطقوس والعبادة.
يعتقد بعض الباحثين أن نسبة تسمية الخضر تعود إلى كون المفردة ذات صلة بدلالة تعني القدم، فيقال مثلاً من أيام الخضر إشارة إلى قدم الشيء، ولهذا يمكن اعتبار تسمية المسجد تعني القديم، بينما يعتقد آخرون أن سبب التسمية يرجع إلى التبرك والتيمن باسم الخضر (ع) العبد الصالح الذي ذكر اسمه في القرآن الكريم، وليس للخضر أي دور في إنشائه أو تشييده، وإنما بناه الناس وأسموه بالخضر تيمناً.
ويرجع بعض الباحثين وجود المسجد بعيداً عن الأحياء السكنية في جزيرة تاروت-حيث يعتبر في ذلك الوقت في منطقة بعيدة جداً عن المنازل- إلى كونه محلاً للاعتكاف والتفرغ للعبادة، خصوصاً وأن المساجد المتباعدة في تاروت عن الأحياء السكنية تأتي كلها ضمن خط متصل بمسافات محددة بين كل مسجد تصل في الغالب إلى البحر ضمن خط يقطع المزارع والبساتين ويكون في حدود من مسجدين إلى خمسة مساجد أو أكثر ضمن خط واحد، بينما مسجد الخضر يقع في خط وعلى الرغم من كون ذلك الخط متصل في نهايته بالبحر إلا أنه المسجد الوحيد ضمن هذا الخط أو الطريق.
وكون التشابه كبير بين مسجد الخضر في جزيرة فيلكه ومسجد الخضر في جزيرة تاروت، حيث يقع كلاهما في جزيرة، وفوق تل ركامي قريب من البحر، وفي مكان بعيد عن المنازل، يرجح بعض الباحثين أن موقعه القصي (وهو أمر لا يمكن تأكيده الآن) كان يشكل محجاً للمسيحيين الذين يعتنقون المذهب النسطوري (وهو المذهب الذي يعتقد أنه كان سائداً في المنطقة) خصوصاً وأنهم يعتقدون أن مكان العبادة يجب أن يكون بعيداً يقصده الناس ويسعون إليه من أجل أن يكون القصد والسعي خالصاً للعبادة، وأن وجوده قرب البحر يجعله في مكان مكشوف من أجل التفكر وغيرها من الشؤون العبادية الأخرى، ويعتقد الباحثون أيضاً أن المعبد كانت له أسطورة معينة اختفت مع دخول الإسلام وبقيت قداسة المكان وخصوصيته التي توارثتها الأجيال.
واستناداً إلى دراسات الباحث الأثري جيفري بيبي في كتابه البحث عن دلمون الذي يقول فيه عن مسجد الخضر في فيلكه: (مقام الخضر، بدا هناك مرتفع ضئيل جوانبه شديدة الانحدار يقع على لسان صخري واطئ يرش الماء جوانبه الثلاثة وقد علا قمته سياج صغير مستدير على هيئة جدار بعلو خمسة أقدام وبفجوة شكلت مدخلاً ضيقاً، وحينما تسلقنا المرتفع، استطعنا أن نعرف أنه أكمة صناعية، وأنه كان تلاً صغيراً، وقد نتأت من جوانبه الأحجار المشكلة للأبنية القديمة من هنا وهناك، وأنتصب عمود حجري خشن، دون أي شيء آخر وسط سياج فوق القمة، لا يكاد يبلغ ستة أقدام من كل جانب، ولقد دلت الأعلام الصغيرة والرايات المثلثة وقصاصات القماش البراقة الألوان والمرفرفة التي ركزت وسط أحجار الجدار على أن المبنى كان مزاراً يحج إليه).
(لم نتمكن أنفسنا من إيجاد أي دليل يحدد زمن المقام وتعود كسر الفخار الوافرة كلها لأزمنة حديثة غير أننا لمحنا على مسافة لا تكاد تبعد أكثر من مائة ياردة من المقام هناك، أكمتين كبيرتين مسطحتين، فاتجهنا إليهما، فوجدنا كسر الفخار الحمراء ذات الحواف العائد لحضارة باربار ملقاة عليهما).
يتضح أن مسجد الخضر شيد على أنقاض معبد آخر يعود إلى فترة حضارة باربار التي تشترك فيها الجزيرتين كما سنرى، حيث يعتقد جيفري بيبي أن المعبد الذي شيد عليه المسجد يحظى بخصوصية وقدسية معينة استمرت لفترات طويلة جداً قبل اليهودية والمسيحية وحتى بعد أن أعتنق الناس الإسلام، حيث يقول (كان هناك معبد لانزاك على فيلكه، وكان هناك معبد لأرتميس قبل ألفين من السنين وكذلك مصنع لإنتاج التماثيل النذرية للآلهة والإلهات الإغريقية، وبدا كما لو أن فيلكه كانت لآلف من السنين جزيرة مقدسة، ولا تزال مكاناً يحج إليه).
(وحينما تمعنت في الدلائل المتزايدة حول استمرار فيلكه لألوف من السنين كمكان مقدس قررت أنه بات واجباً علي أن أنظر بتمعن أكبر في شخصية الخضر).
ولكي أربط علاقة المعبدين بفترة حضارة باربار أستشهد بقول آخر للباحث الأثري جيفري بيبي حيث يقول عن جزيرة تاروت: (لقد أمضنا العذاب في معرفتنا بأن هناك موقعاً، وموقعاً واحداً فقط يمكن أن تقع القرون المفقودة من التاريخ من خلاله، وذلك هو تل تاروت، حيث تقع آنية العبيد بأسفلها وآنية باربار بطبقاتها العليا، ولابد أن تقع فيها قصة كيفية تطور إحداها إلى الأخرى، ولا تزال تاروت موقعاً يستحيل إتمام الحفر فيه كما كان دائماً).
ونظراً لوجود طبقات في كلتا الجزيرتين تشير إلى حضارة باربار، من نافل القول أن يكون المعبدان ينتميان لفترة واحدة تحمل عقيدة معينة ذات خصائص واحدة نظراً لتشابه الموقعين.
وفي نهاية هذا البحث المتواضع تجدر الإشارة إلى أن مسجد الخضر في تاروت القائم حالياً قبل عملية الترميم شيد على أنقاض مسجد سابق منذ عهد إسلامي متأخر في عام 1375هـ على نفقة الحاج عبد الله التيتون القطيفي المولد والمقيم في دولة الكويت والمرحوم الحاج محمد تقي آل سيف من أهالي تاروت، وقام بتنفيذ بنائه كلٌّ من الحاج عبد الكريم المطر، والحاج حسن العرادي من أهالي تاروت.
منقوووووووول
الصراحة موضوع عجيب
والمعلومات اول نوبة اسمع عنها:داير راسه