واحة القطيف - « محمد النمر - مجلة الواحة العدد 21 » - 03/09/2006م

كانت زيارة الحاج المكرم منصور بن حسن بن نصر الله. كان الحديث متشعباً.. لكنه عرّج على القضاء كونه موضوع الساعة بعد استعفاء سماحة العلامة الشيخ عبدالحميد الخطي قاضي محكمة الأوقاف والمواريث من المنصب لظروفه الصحية.. فاستغلت الفرصة للاستفادة من ذاكرة الحاج ومعلوماته بالتوسع في الموضوع.
أبو محمد متابع وقارئ للواحة منذ صدورها ويسأل ويعاتب حين تتأخر في وصولها ليديه؛ لذلك لم نجد صعوبة في شرح المهمة التي زرناه من أجلها. استقبلنا بوجه بشوش وصدر رحب وأجاب على أسئلتنا بانفتاح وجرأة متحفظاً على بعضها حفاظاً على مشاعر الآخرين.
هذا الرجل لديه الكثير من المعلومات التاريخية، وهو يحتفظ بذاكرة جيدة عن مسيرة الأحداث الاجتماعية والسياسية التي مرت أو عصفت بالمنطقة وموقف الشخصيات وأصحاب الرأي منها. ولابد أن تكون لثقافة عصره وبيئته أثرها على آرائه ومواقفه من تلك الأحداث وذلك التاريخ، وربما اختلفنا أو اختلف معه آخرون في بعض ما ذهب إليه لكنه رجل لا يصرّ على خطأ.
والحياد من أجمل الخصال في هذا الرجل فهو يذكر لنا الحدث كما هو، لا يجيِّر الخبر أو يحوره لصالح أحد دون آخر أو ليرجح كفة على أخرى. وأسرة نصر الله من أسر القطيف المعروفة التي كان لها حضور سياسي واجتماعي وديني في الحقب التاريخية القطيفية المختلفة، ولها رجالاتها في الماضي والحاضر، ولها مواقف وآراء كان يمكن أن تتمسك بها الأجيال النصراوية التالية ومنهم أبو محمد، إلاّ أنه كان ينقل الأحداث بأمانة كما يعرفها دون محاباة ودونما إساءة لهذا أو ذاك.
نقول هذا لأنك قد تجد عند غيره من أصحاب (البيوتات) الانحياز والتباهي والتفاخر والأنا النرجسية الطاغية في مجالسهم وأحاديثهم وكتاباتهم بأشكالها السلبية والإيجابية. ولو لم يكن من أعلام هذه الأسرة إلاّ الشيخ أحمد بن مهدي لكفى، كيف ومنهم الشيخ مهدي بن أحمد نصر الله (ت 1281هـ)، والشيخ ناصر بن أحمد نصر الله (ت 1295هـ)، والشيخ عبدالله بن الشيخ ناصر (ت 1341هـ)، والحاج عبدالله بن نصر الله (ت 1374هـ) والشيخ محمد بن علي بن عبدالله نصر الله (ت 1343هـ)، والشيخ حسن علي بن الشيخ محمد نصر الله (ت 1332هـ) ووالده الحاج حسن بن علي (ت 1376هـ)، وآخرون من ماضين ومعاصرين.
القضاء في العهد العثماني
عن الفترة العثمانية يقول الحاج نصر الله: كل عالم كان قاضياً يمارس القضاء بعفوية في منزله طوال الفترة التي سبقت دخول الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه للبلاد، وآخر من كان يمارس القضاء في العهد العثماني في مركز القطيف (المدينة) هو الشيخ عبدالله بن ناصر بن أحمد نصر الله أبو السعود الذي كان وكيلاً لكبار علماء عصره كآية الله الشيخ محمد طه نجف، والعلامة الشيخ محمد حسين الكاظمي، فكان الشيخ عبدالله يقضي بين الناس، وعُرف عنه أنه كان يجنب المتخاصمين حلف اليمين لما في ذلك من آثار دنيوية وأخروية على الحالف، ويدفع باتجاه الصلح بين المتخاصمين.
وعلى أثر مجيء الشيخ علي أبو عبدالكريم الخنيزي ترك الشيخ نصر الله بطوعه واختياره المجال للقاضي المجتهد الخنيزي وحثّ الناس على الذهاب للشيخ الخنيزي. توفي الشيخ عبدالله في 16/ 5/ 1341هـ وترك كثيراً من الشعر الجميل.
أبو عبدالكريم ومركزية القضاء في العهد السعودي
وفي سنة 1331هـ أصدر المغفور له الملك عبدالعزيز أمراً يقضي بتعيين الشيخ علي أبو عبدالكريم قاضياً رسمياً للقطيف، فكان أول القضاة الذي تحال له الأمور وسائر المنازعات وبشكل رسمي ملزم للأطراف ويأمر الجهات التنفيذية بإنفاذه. ولم يكن يقضي بشكل رسمي أحد سواه.
ويضيف الحاج نصر الله أن الشيخ أبا حسن أصدر ذات مرة مفلاجاً (حكماً) في قضية بين متخاصمين اختاراه للحكم بينهما كما هو مقرر شرعاً، وعرض المفلاج على الأمير وقتها كان الشيخ أبو عبدالكريم هو القاضي الرسمي، فاستنكر أمير القطيف (في الدرويشية) حينها عبدالرحمن بن خير الله حكمه القضائي وتردد في إنفاذ الحكم، وكان الحاج الوجيه عبدالله بن نصر الله موجوداً لدى الأمير فنصحه بإنفاذ الحكم وعدم التردد لكون الشيخ الخنيزي مجتهداً أيضاً وحكمه لازم كما هو مقرر في المذهب ومتعارف عليه عند الناس، فقبل خير الله النصيحة من الحاج نصر الله وتم تنفيذ حكم أبي حسن الخنيزي.
والشيخ أبو عبدالكريم الخنيزي -والذي كان يسمى الشيخ العود (الكبير) تمييزاً له عن عمه أبي حسن الذي كان يصغره سناً - كان يقضي بين الناس قاطبة سنة وشيعة. ويذكر كثير من الأهالي والسنة منهم خاصة، ومنهم بنو خالد أن الشيخ أبا عبدالكريم كان ملاذاً للجميع على رغم مجيء قضاة سنة حينها مثل الشيخ محمد عبداللطيف والشيخ المغربي الذي أصدر حكماً في قضية لصالح سلمان العبدالهادي الصفواني ضد أهالي صفوى.
أبو حسن الخنيزي
ومع وفاة الشيخ علي أبي عبدالكريم سنة 1362هـ كاد القضاء الجعفري الرسمي أن يلغى لولا سعي الأهالي وأعيان القطيف للجهات الرسمية، فتم تعيين الشيخ علي أبو حسن قاضياً للأوقاف والمواريث.
والشيخ علي أبو حسن الخنيزي رحمه الله وكان يسمى الشيخ الصغير -كما بُيِّن سابقاً- كانت فترة توليه القضاء قصيرة جداً (صفر 62 - ذي القعدة 63)، وكان يمارس دور القضاء بين الناس في داره بالقلعة، ورغم تقاضي الناس عنده سنة وشيعة إلا أن القضاء في عهده تقلص شيئاً ما.
فترة الشيخ محمد علي الخنيزي
مع وفاة الشيخ أبو حسن كان الأجدر بالقضاء حينها السيد ماجد العوامي؛ لكونه أبرز المجتهدين في حاضرة القطيف، إلا أن السيد العوامي لم يكن يرغب في الاتصال في جهات حكومية فأجاز السيد العوامي للشيخ محمد علي الخنيزي ممارسة القضاء الذي لم يكن هو الآخر راغباً في تحمل أعباءه، وكتب الأهالي للملك عبدالعزيز بضرورة أن يتحمل الخنيزي ذلك الدور مؤقتاً حتى عودة الجشي، ولم يقبل الشيخ محمد علي الخنيزي ذلك إلا على مضض لحين عزله سنة 1367هـ بعد وفاة السيد ماجد وعودة الجشي رحمه الله.
ولعل ما كان يؤخذ على الشيخ الخنيزي رحمه الله أن آخرين كانوا يديرون أموره فكان صهره علي بن حسن أبو السعود (ت 1374هـ) وابنه المعاصر محمد سعيد الشيخ محمد علي هما اللذان يديران الأمور.
وفي عهده رحمه الله صارت مشاكاة بين الشيخ محمد صالح المبارك (القاضي فيما بعد) من جهة وبين الشيخ محمد علي وأعوانه من جهة أخرى على الأوقاف خاصة، ففيما يرى الشيخ الخنيزي نفسه وليًّا بوكالته من المرجع ويرى الشيخ المبارك نفسه وليَّا باجتهاده وتصديه للشأن العام.
فترة الشيخ علي الجشي
في أثناء تولي الشيخ محمد علي الخنيزي للقضاء خاطب بعض وجهاء البلاد الشيخ علي الجشي المقيم حينها في النجف وطلبوا منه العودة للقطيف ليكون قاضيها، وقد كان يرفض ذلك الطلب من قبل، ولكن بعد وفاة السيد ماجد العوامي وتدخل علماء النجف وتحديداً الشيخ محمد رضا آل ياسين والسيد الحكيم رحمهما الله قبل الشيخ الجشي ذلك، فعاد متوجاً بشهادات الاجتهاد والولاية العامة على الأوقاف بما فيها الأوقاف التي بيد السيد ماجد.
وقبل عودته للبلاد عبر البحرين أبرق الشيخ الجشي للحاج الوجيه عبدالله بن نصر الله برقية مختصرة فيها عبارة سننزل البحرين - الجشي. ووصل الشيخ الجشي في 2 جمادى الأولى سنة 1367هـ وتم تعيينه -جماهيرياً- قاضياً (وهي المرة الوحيدة التي يعين فيها قاضي للقطيف قبل وفاة سلفه) رغم تحفظ البعض على توليه.
وقد قال الشيخ فرج العمران فيه قصيدة غرّاء جاء فيها:
هذا القضاء بك يستغيث فلبِّه فلك الرياسة فيه والسلطان
ووقعت الخصومات بينه ومريديه وبين بعض بيت العوامي حينها تحديداً السيد محمد العوامي وصارت مكاتبات مع الجهات الحكومية وطلب عزله وإعادة الشيخ محمد علي الخنيزي فشكلت لجنة من الشيعة والسنة للبت في قضايا عدة منها قضية الأوقاف المتنازع عليها بين آل العوامي والجشي،ومن أعضاء هذه اللجنة السيد محمد بن السيد حسين العلي (الأحساء) والشيخ محمد صالح المبارك والشيخ ناصر اللحدان والشيخ حمد الجاسر وعمدة الدمام أحمد بن عبدالله وشخص آخر اسمه السيد سلمان وآخرون، وحين بحثت المسألة الأخيرة من قيل اللجنة رفض السيد محمد السيد حسين العلي النظر فيها لكونها سبق أن نظرها والده وحكم للشيخ علي الجشي، واقترح على الشيخ الجشي أن يعطي السيد محمد العوامي الولاية على ثلث الأوقاف. وبقي الشيخ الجشي قاضياً حتى وفاته سنة 1376هـ.
قصة صندوقي الوثائق
نتيجة لمنازعات لم تكن خافية بين الأهالي والبيوتات خاصة على الأوقاف سلَّم بيت الشيخ محمد علي الخنيزي لإمارة الشرقية صندوقين مملوءين بالوثائق الخاصة بالشيخ علي أبو عبدالكريم حيث آلت للشيخ محمد علي أثناء توليه القضاء وبقيت لديه، وهي وثائق متعلقة في معظمها بالقضاء، حتى استقرت بعض الأمور فأعادها بن جلوي إلى المحكمة الجعفرية في عهد الشيخ علي الجشي رحمه الله.
ولتجدد الخلافات طلب ابن جلوي الوثائق المذكورة مرة أخرى فامتنع الشيخ الجشي فأرسل بن جلوي مندوبه ابن عطيشان ومعه قرار عزل الجشي لامتناعه، وأشيع الخبر وصار تذمر وبلبلة وسط الناس رغبة في بقائه في القضاء، حتى خصومه وقفوا معه ومنهم السيد محمد العوامي، وتم إعادة الصندوقين مرة أخرى للإمارة وبقي الشيخ الجشي قاضيا [1] .
فترة الشيخ محمد صالح المبارك
بعد وفاة الجشي رحمه الله كان الأولى بالقضاء قاطبة في القطيف هو الشيخ محمد صالح المبارك، بل حتى بعد وفاة أبي حسن وزهد السيد ماجد فيه، لكن بعض الوجهاء كانوا كارهين لتوليه له راغبين في عودة الشيخ محمد علي الخنيزي رحمه الله، وقد كتبوا ضد المبارك مؤيدين لعودة الخنيزي، إلا أن الإمارة ممثلة في ابن جلوي نصبت المبارك دون التفات لمعارضيه.
فترة الشيخ عبدالحميد الخطي
بعد وفاة الشيخ المبارك 1396هـ، كان المرشحون للقضاء ثلاثة وهم الشيخ فرج العمران والشيخ عبدالحميد الخطي والشيخ عبدالمجيد أبو المكارم، وكان صاحب السهم الأوفر هو أولهم إلا أنه زهد فيه وأحاله إلى تلميذه الشيخ عبدالحميد الخطي الذي استعفى من القضاء مؤخراً كما تعلمون [2] .
--------------------------
[1] تم إرجاع الصندوقين المذكورين المعروفين بصناديق الدرويشية لمحافظة القطيف في فترة ما بعد وفاة القاضي الشيخ عبدالحميد، وعلى أساس أن تعاد الوثائق لأصحابها، وهي في طور الفهرسة وتشكيل لجنة لتسليمها لأصحابها.
[2] كان اللقاء بعد استعفاء سماحة الشيخ الخطي وقبل وفاته رحمه الله بتاريخ 14/ 1/ 1422هـ.
منتدي تاروت الثقافي
بستان الفكر والمعرفة