- ليس في البكاء على الحسين (ع) بدعة..
جبل الإنسان على المحبة والعاطفة وقد بكى الرسول الأعظم (ص) على ولده إبراهيم، وبكى قبله يعقوب (ع) على ابنه يوسف، حتى ابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم.
وأن الذي لا يملك عاطفة تجاه من يحب، تتجلى في دمعة يسكبها في مظلومية أو في عاديات الدهر عليه، أو لتواتر الأحزان عليه، إنما هو جلف صلف لأنه فاقد لمقوم أساس من مقومات إنسانيته؛ فهو منحرف عن الفطرة السليمة التي هي أساس الدين.
إن الحسين (ع) بالنسبة للدين الفطرة - الإسلام؛ وهو بالإجماع: سبط الرسول الأكرم(ص)، وريحانته، وحبيبه، وسيد شباب أهل الجنة، والمُطّهر من الرجس بنص الكتاب، والمطلوب مودته بنص كتاب الله تعالى، وخامس أصحاب الكساء والإمام المفترض الطاعة بنص الكتاب أيضاً، والآل الذي لا تصح الصلاة المفروضة إلا بالصلاة عليه... وكثير مما لا يحصى، وهو من المسلمات عند جمهور المسلمين في فضل الحسين وتميزه بالمحبة(**).
فكيف نجد إنساناً يحب الحسين (ع)، وهو بهذه المواصفات وتفيض عيناه عاطفة بحب الحسين (ع) طاعة لله وللرسول، وحب وصايا الرسول (ص) والكتاب الحكيم، ونقول عنه إنه مبدع، وإن عمله لا يرضي الله ورسوله!!
إنه منتهى الجهل والقسوة، بل هي نعرة إبليس وغواية الشيطان؛ باتهام الإنسان بما حباه الله تعالى من فضل، وقد لعن الله إبليس والشياطين وحزبهم(***).
والأغرب من هذا أن هذا الحريص على الدين من البدع، يمارس كل البدع التي حذّر منها الرسول الأعظم (ص) دون أن يرعوي، وهو يعلم أن الرسول (ص) حذر منها، بل إنه يصنفها من البدع المقبولة. وهذا من البلية التي تضحك!.
والأغرب أيضاً من كل هذا، أن الذي يرى في البكاء على الحسين (ع) بدعة، قد يساوي بين الحسين (ع) والذين لعنهم الله ورسوله ويترضى عليهم!!
فهل في هذا بلاغ؟!.
- في البكاء على الحسين (ع) حفظ الدين:
إن من أهم ما يلفت نظر المرء في الحياة، هو أن يرى أو يسمع أحداً يبكي، وكلما كان البكاء حاداً كلما كان الانتباه يشتد إليه. وبكاء المسلمين على الحسين (ع)، يشتد الانتباه إليه؛ فالإنسان قد يقول كذباً، أو يفعل زوراً، أو يماري أو يجادل باطلاً، لكنه لا يستطيع أن يبكي كذباً في مجاميع وفي موضوع تنعقد نفسه عليه ديناً لوجه الله تعالى، وأن يطول بكاؤه ويتكرر حزنه بصدق تام، يعاضده في ذلك شعر لم يجد تاريخ البشرية له مثيلاً في صدق عاطفته، حتى أن عميد الأدب العربي طه حسين قال: (كان الشعر علوياً، وسيبقى علوياً)؛ لما فيه من صدق عاطفة محبي الحسين وآل البيت (ع).
إن صدق العاطفة هذا وفيما يرضي الله تعالى، ودوام الحزن والبكاء على مصيبة الحسين(ع)، كلها أمور تؤدي إلى حفظ الدين العظيم وفي اتجاهين:
الاتجاه الأول: في البكاء على الحسين(ع) معاني التصاق العاطفة عند الباكين من أنصار الحسين(ع) بالمبدأ الذي استشهد الحسين(ع) من أجله، وهو في الإسلام، مذهب أهل البيت(ع) المطهرين بإرادة الله تعالى، وإرادة الله نافذة لا حول دونها.
البكاء على الحسين(ع)، إنما هو بكاء على فقدان ذلك المبدأ والعاطفة، للحفاظ عليه؛ فمبدأ الحسين(ع) هو مبدأ جد الحسين(ص) في الدين الخالص لله تعالى، في حين أن مبدأ الظلمة الذين قتلوه(ع)، هو مبدأ الطلقاء الطرداء الذين هم الأعداء الأوائل والأساسين للإسلام، والذين هم أهل للردى الثانوية في كل تغير اجتماعي ثوري في التاريخ.
البكاء وسيلة للتعبير عن الالتصاق بالدين الصادق وللكون مع الصادقين الذين أمر الله تعالى بالكون معهم(2).
والبكاء وسيلة للتمسك بالثقل العاصم من الثقلين الذين أوصى الرسول الأعظم (ص) بالتمسك بهما عصمةً من الضلال(3).
والبكاء على الحسين (ع)، يمثل اختيار السفينة المنجية التي أوصى الرسول الأعظم (ص) بركوبها للنجاة وبعدم التخلف عنها(4).
والبكاء على الحسين (ع) هو انحياز لحزب الله تعالى وهجر لحزب إبليس(5).
والبكاء على الحسين (ع) طاعة لرسول الله تعالى في محبة الحسين (ع) وأهل بيته(ع). كما مر معنا في قوله (ص): (أحب الله من أحب حسينا).
والبكاء على الحسين (ع) طاعة لله تعالى في مودة ذوي القربى (ع).
الاتجاه الثاني:
في البكاء على الحسين (ع) دعوة لمذهب أهل البيت (ع) باعتباره المذهب الأصيل في الإسلام، وبيان للمعاني الجميلة في دين الله تعالى التي لم تبرز إلا من خلال ثورة الحسين(ع)؛ ذلك لأن البكاء على الحسين (ع) فيه حجة على بقية المسلمين بالملازمة والتكرار، حيث البكاء يلازم هذه الطائفة المحبة لأهل البيت، ويتكرر مع الدهر في أيام الله وضمن معيار شعائره؛ فهو إذن دعوة للمسلمين أن يسألوا عن سر هذا البكاء، ومن خلال هذه الشعائر.
فهل هو معقول أن تكذب عواطف مئات فطاحل الشعراء وعمالقتهم على مر التاريخ؛ فما من فطحل أو عملاق في الشعر إلا وهو شيعي يوالي الحسين (ع)؟!.
هل هو معقول أن كبار المفكرين والعلماء والفلاسفة على الإطلاق، وهم ممن يبكون الحسين (ع) ومن أشد محبيه ومواليه، من أمثال جابر بن حيان الكوفي وابن سينا، ابن النديم الذي يقول (ملفل ديوي) أنه أخذ تصنيفه الشعري للعلوم منه، والفراهيدي... وغيرهم كثير في كل علم وصنعة.. هل معقول أن هذه العقول العملاقة في التاريخ كله، تبكي الحسين (ع) عبثاً؟!.
أمعقول هذا؟!!.
نقول هذا ونطلق هذا التساؤل بفرض أن المتساءل عن البكاء على الحسين (ع) هو باحث عن الحق والحقيقة، ولم يحبس عقله بعصابة الحقد على آل محمد (ص).. ولذا، فإن لم يكن باحثاً عن الحق والدين الحق، فليس مأسوفاً عليه أن يفعل مثل هذا بنفسه.. فالبكاء على الحسين (ع) حجة قائمة لا لبس فيها. وهكذا هو القول الحق:
(قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين) الأنعام - 149.
- البكاء على الحسين (ع) حرب على الطغاة:
يترافق البكاء على الحسين (ع) بذكر قصة مقتله، وهو السبط المصلح، وسيد شباب أهل الجنة، الثائر، والذي قتله الطاغية يزيد الفاجر شارب الخمور، وأبناء النوابغ سمية ومرجانه من قادته... في مجالس تتكرر في كل صقع وعلى مر الدهور؛ ولذا فإن للبكاء على الحسين(ع) عند الطغاة معنى سياسي؛ فهو بكاء سياسي يتضمن معنى الاحتجاج على الظالمين والطغاة الذين يقتلون المصلحين وأصحاب المبادئ الصحيحة.
إن مجالس البكاء على الحسين (ع) تهز عروش الطغاة في كل بلد تقوم فيه.. ولذا فالطغاة وهذه المجالس في حالة حرب على مر التاريخ.
إن في العراق وحده أعدم مئات الآلاف من قبل صدام، من الباكين على الحسين (ع) والذاهبين مشياً لزيارته.
إن الباكين على الحسين (ع) هم ثوار الدين الحق، لأنهم يحملون معاني ثورة الحسين على الطغيان والفسق والفجور.. والبكاء تظاهرة عظيمة للمظلوم على ظالمه، والله تعالى قد رخص هذا القول، بقوله تعالى:
(لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ُظلم) وأي ظلامة أعظم من ظلامة ابن الرسول الأعظم (ص).
- البكاء على الحسين (ع) تجديد للدين باعتباره ثورة دائمة:
لولا البكاء على الحسين (ع) لما تجسد شعار (لكل فرعون موسى ولكل يزيد حسين).
ولولا البكاء على الحسين (ع) لكان انتقال الخلافة - خلافة الرسول الأعظم- للفاجر يزيد بالوراثة أمراً تلقائياً ولضاع الدين إلى الأبد؛ فمن خلال البكاء على الحسين (ع) برزت مضامين حافظة للدين تجسدت بتلك الشعارات التي حملها أنصار الحسين (ع)، وصار للثورة الحسينية أدباً يتعاظم يوماً بعد يوم مع البكاء وبقصد الإبكاء، وامتدت شعائر البكاء والإبكاء على الحسين (ع) في كل أصقاع الأرض، وهي تحكي بأدب بليغ قصة النور الذي أرادوا أن يطفئوه في كربلاء ولكنه استعر ثم استطال وانتشر، وتبين للناس معاني الثورة في دين الله، وتعلموا مواقع الخير والحسن والعدل، وتنبهوا إلى مواقع الخطأ والخطل والضلال والقبح وتحذروا منها.. وصار للبكاء منبراً يقض مضاجع الطغاة في كل دهر وفي كل أرض، طبقاًً لشعارات الثورة الحسينية.
ولكي ننصف المتطلع إلى هذا القول باعتباره نبعاً من عاطفة شيعي مظلوم، نقول: تصوروا كيف يكون الإسلام دون الباكين على الحسين (ع) والمستنكرين على يزيد الفاسق إمارة المؤمنين. أو تصوروا ديناً فيه أمثال معاوية ويزيد، والذين من بعدهم أمثال الوليد بن يزيد الذي تولى الخلافة في الأمة يوم الأربعاء 6ربيع الثاني سنة 125هـ والذي يقول عنه السيوطي في كتابه (تاريخ الخلفاء) أنه كان فاجراً سكيراً يزني بالأمهات والأخوات، وقد أرسل من يبني له مشربة للخمر فوق الكعبة، ولكن الله قتله قبل أن يفعل هذا، وذلك في النجراء (وهي قرية في دمشق) يوم الخميس 28 جمادى الثانية سنة 126هـ وله الشعر التالي الذي ينم عن حال أمة هو يتولى الأمر فيها:
فدع عنك ادكارك آل سـعدي فنحن الأكثرون حصى ومـالا
ونحن المالكون الناس قسـراً نسـومهم المذلة والنكـالا
ونوردهم حياض الخسف ذلاً ومـا نـألـوهم إلا خبـالا
- البكاء على الحسين (ع) توحيد خالص لله تعالى:
إن البكاء على الحسين (ع) هو تعبير عن كراهية محب الحسين (ع) للظلم، بما نال الحسين (ع) من مظلومية شديدة في دينه لله تعالى وتوحيده له جل وعلا.. وإذا كرهت النفوس الظلم، كرهت الشرك؛ إذ (إن الشرك لظلم عظيم)- لقمان: 8 -.
إن البكاء على الحسين (ع)، لا يصدر إلا عن نفوس قُوّمت بتوحيد الله تعالى لأنها انطوت على بغض الظالمين وعداوتهم والبراءة منهم. وهذا منهج واضح في التوحيد يبرزه القرآن في سيرة سيد الموحدين إبراهيم الخليل (ع).
قال تعالى: (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه، إذ قالوا لقومهم إنّا بُرءاء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده) (الممتحنة: 4).
وفي موضع آخر من نهج القرآن تأكيد كون بغض الظالمين وعداوتهم هو نهج الموحدين، حيث قال تعالى على لسان إبراهيم (ع):
(قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون، أنتم وآباؤكم الأقدمون، فإنهم عدو لي إلا ربّ العالمين) (الشعراء: 75 - 77).
وفي موضع آخر يقول الله، عن سيد الموحدين إبراهيم في موقفه من جدّه لأمه، أو عمه: (فلما تبين أنه عدو لله تبرأ منه) التوبة: 114.
والبكاء على الحسين (ع)، بما فيه من حسرة وحرقة على مظلوميته ومصيبته الراتبة، يتضمن لعن الظالمين الكبار والبراءة منهم، الذين امتطوا الدين الذي جاء بشريعة التوحيد والوحدانية، فجعلوه سهماً لغاياتهم في الحياة الدنيا، وعروة للتسلط على الناس بغير عدل أفشوه أو حسنٍ فعلوه. والبكاء على الحسين (ع) طلب للعودة إلى شريعة التوحيد، شريعة الحسين (ع)، وجد الحسين (ص).
السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين
وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين
نور