سؤال
سئل رسول الله "ص": أرأيت أدوية نتداوى بها ورقي نسترقي بها وتقى نتقيها، هل تردّ من قدر الله شيئاً؟ قال:"هي من قدر الله" .
ما معنى أنّ الدواء من القدر؟
جواب السؤال
الحديث المذكور لم يُنقل من طرقنا وهو حديث منقول في كتب المخالفين، إلاّ أنّ مضمونه مقبول ومؤيّد مضمونه بما ورد عن أهل بيت العصمة والطهارة "ع" .
فروي أنّه سئل الإمام الصادق "ع" عن الرقي، هل تدفع من القدر شيئاً؟ فقال: "هي من القدر" ([1]).
وكذا غيرها مِن الروايات.
ولابدّ مِن الكلام في القضاء والقدر، مِن أجل إيضاح الأمر مِن جهة، وغفلة بعض المؤمنين عن القضاء والقدر مِن جهة أخرى فنقول:
الاعتقاد بالقضاء والقدر
لقد أمرنا بالاعتقاد بالقضاء والقدر خيره وشرّه. كما قال تعالى:
{قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}([2]).
وأنّه مِن الإيمان كما في روايات كثيرة منها:
ما روي في الصحيح عن أبي جعفر "ع" أنّه قال: "يحشر المكذِّبون بقدر الله من قبورهم قد مسخوا قردة وخنازير" ([3]).
وما روي عن رسول الله "ص" أنّه قال: "لا يؤمن أحدكم حتى يؤمن بالقدر خيره وشره وحلوه ومره"([4]).
وما روي عنه "ص" أنّه قال: "أربعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، عاق ومنّان ومكذِّب بالقدر ومدمن خمر"([5]).
وما روي عنه "ص" :" أنّ المكذِّب بقدر الله ممن لعنهم الله وكلّ نبي مجاب " ([6]).
وما روي عن أبي محمد الحسن بن علي "ع" أنّه قال: " أمّا بعد، فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره أنّ الله يعلمه فقد كفر..." ([7]).
معنى القضاء والقدر
والكلام هنا يقتضي أن نتعرّف على معنى القضاء والقدر فنقول:
قال الراغب في المفردات: القدر والتقدير تبيين كمية الشيء.
وقال: القضاء فصل الأمر قولاً كان ذلك أو فعلاً، وكلّ واحد منهما على وجهين: الهي وبشرى.
وهذا المعنى قد أشارت إليه الرواية المعتبرة سنداً عن الإمام الرضا "ع" وقد سأله يونس عن معنى القدر والقضاء، فقال: "هي الهندسة ووضع الحدود من البقاء والفناء، والقضاء هو الإبرام وإقامة العين"([8]).
كما روى عنه "ع" وقد سئل عن القدر فقال: " تقدير الشيء من طوله وعرضه"
وسئل عن القضاء فقال: " إذا قضى أمضاه فذلك الذي لا مرد له"([9]).
والمتحصّل في معنى القضاء والقدر أنّ القدر هو:
تقدير الأمور وتحديدها وتفصيلها بمقتضى الحكمة سواء كانت مِن الأقوال أم الأفعال، أمّا القضاء فهو فصلها وتعيينها.
والقضاء أستعمله القرآن الكريم في عدّة معانٍ ووجوه وقد عدّها بعضهم ([10])عشرة وهي:
الأوّل: العلم
وذلك في قوله تعالى: {...إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} ([11]) . يعني علمها.
إلاّ أنّ "قضاها" في الآية الكريمة فسّرت بغير ذلك، فمنهم مِن قال المعنى أنّه (أدّاها) وهذا يرجع إلى معنى الإبرام والفصل.
الثاني: الإعلام
وهو قوله عزّ وجلّ: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} ([12]) . أي أخبرنا وأعلمنا بني إسرائيل إخباراً قاطعاً في الكتاب وهو التوراة.
وقوله عزّ وجلّ: {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاء مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ} ([13]) . أي أعلمناه وأخبرناه إخباراً قاطعاً.
الثالث : الحكم
وهو قـول الله عـزّ وجلّ: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ}([14]) . أي يحكم بينهم حكماً قاطعاً.
الرابع : القول
وهو قـوله عـزّ وجلّ: {وَاللَهُ يَقْضِي بِالحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ([15]).
أي أنّ الله تعالى يقول قولاً قاطعاً بالحق في مقام فصل الحكم، وغيره الذين يعبدونهم من دون الله لا يقولون شيئاً يوم القيامة.
إلاّ أنّ هذا المعنى يُمكن إرجاعه إلى الحكم.
الخامس : ألحتم
وهو قوله عزّ وجلّ: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ المَوْتَ...}([16]). يعني حتمنا، فهو القضاء ألحتم.
السادس : الأمر
وهو قـولـه عـزّ وجـلّ: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا...} ([17]). يعني أمر ربّك أمراً قاطعاً.
السابع : الخلق
وهو قوله عزّ وجلّ : {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ...} ([18]) . يعني خلقهن .
الثامن : الفعل
وهو قوله عزّ وجلّ: {قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الحَيَاةَ الدُّنْيَا} ([19]) . أي افعل ما أنت فاعل .
التاسع : الإتمام
وهو قوله عزّ وجلّ: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ...}([20]).
وقوله عزّ وجلّ حكاية عن موسى: {قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ}([21]). أي أتممت.
والعاشر: الفراغ من الشيء.
وهو قوله عزّ وجلّ: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} ([22]) . يعني فرغ لكما منه، وقول القائل : قد قضيت لك حاجتك، يعني فرغت لك منها .
وهذه المعاني العشرة يُمكن تداخل بعضها مع بعض ولذا عدّها بعضهم ثلاثة معانٍ وبعضهم أكثر مِن ذلك.
كما ينبغي التفريق بين قولنا قضى إليه وقضى به؛ فإنّ قولنا قضى إليه أي أعلمه، وقولنا قضى به أنّه فصل الأمر به.
وإذا اجتمع القدر والقضاء فيُراد منهما مجموع المعنيين للقضاء والقدر.
تقدّم القدر على القضاء
القدر متقدِّم على القضاء، لأنّ التقدير للأمور يكون أوّلاً ثمّ يتمّ البتّ فيها وفصلها، والذي يؤيِّد ذلك ما روي عن الإمام الرضا "ع" حيث قال: "إنّ الله إذا شاء شيئاً أراده، وإذا أراده قدّره، وإذا قدّره قضاه، وإذا قضاه أمضاه"([23]) .
وما روي عنه "ع" أنّه قال ليونس مولى علي بن يقطين: " يا يونس لا تتكلم بالقدر.
قال: إنِّي لا أتكلم بالقدر، ولكن أقول: لا يكون إلاّ ما أراد الله وشاء وقضى وقدر.
قال: ليس هكذا أقول، ولكن أقول: لا يكون إلاّ ما شاء الله وأراد وقدر وقضى " ([24]).
فنجد هنا أنّ الإمام "ع" أراد تصحيح ما قاله يونس مِن تقديم القضاء على القدر، فصحّح قوله بتقديم القدر على القضاء.
هذا إذا لم يكن المراد مِنهما العلم، وإلاّ فالتقدّم والتأخّر في المعلوم لا العلم الإلهي.
القضاء والقدر مِن صفات الفعل أم مِن صفات الذات؟
التقدير مِن الله تعالى والقضاء منه فعل مِن أفعاله بيده تعالى تقدير الأمور كما بيده قضاؤها ففي الصحيح عن أبي عبد الله "ع" أنّه قال: " إنّ القضاء والقدر خلقان من خلق الله، والله يزيد في الخلق ما يشاء" ([25]).
أمّا القضاء والقدر إذا أريد منهما العلم بالأمور فهذا يرجع إلى علم الله تعالى، وهو مِن صفات الذات فلا يوصف بالزيادة أو النقصان إلاّ مِن حيث متعلّق العلم وهو المعلوم.
مُتعلقات القضاء والقدر
المهم الذي يجب علينا أن نفهمه أنّ القضاء والقدر كما يتعلّقان بالأفعال الاختياريّة للمكلّف كذلك يتعلقان بالأفعال الغير اختياريّة، فما يُصيب البشر مِن كوارث طبيعيّة وغيرها فهي بقضاء الله تعالى وقدره، كما أنّ ما يفعله الإنسان أيضاً بقضاء الله تعالى وقدره بمعنى أنّ الله عزّ وجلّ قد علمها وعلم مقاديرها، وله عزّ وجلّ في جميعها حكم، ولذا يُمكن أن يُقال: إنّ الأشياء كلها - مِن خير أو شر - بقضاء الله وقدره تبارك وتعالى فما كان من خير فقد قضاه بمعنى أنه أمر به وحتمه وجعله حقّاً وعلم مبلغة ومقداره، وما كان من شرّ فلم يأمر به ولم يرضه ولكنه عزّ وجلّ قد قضاه وقدره بمعنى أنّه علمه بمقداره ومبلغه وحكم فيه بحكمه.
القضاء والقدر والأمر بين الأمرين
القدريّة فرقة كانت تقول بالتفويض، بمعنى أنّ العبد مُستقل في فعله عن الله تعالى وليس مُحتاجاً له تعالى في قدرته، وأهل البيت"ع" قد بيّنوا للناس الحق وأثبتوا المنزلة بين الجبر والتفويض، ففي الصحيح عن أبي جعفر، وأبي عبد الله "ع" - وقد سئلا أنّه هل بين الجبر والقدر منزلة ثالثة؟ - فقالا: "نعم، أوسع مما بين السماء والأرض"([26]).
وعن أبي عبد الله "ع" - وقد سئل عن الجبر والقدر - فقال: " لا جبر ولا قدر ولكن منزلة بينهما فيها الحق التي بينهما لا يعلمها إلا العالم أو مَن علّمها إياه العالم" ([27]).
وقد ذهبت المذاهب يمنة ويسرة لعدم فهمها للقضاء والقدر، فمنهم مَن فهمهما بمعنى مُجرّد علم الله تعالى بالأفعال ولا دخل لقُدرته فيما قضى وقدّر، وهذا هو القول بالتفويض، ومنهم مَن فهمهما بمعنى أنّ الله تعالى خلق أفعال الخلق وليس لهم اختيار في أفعالهم وهذا هو القول بالجبر، أمّا الحقّ الصادح مِن أهل البيت "ع" أنّ الأفعال الصادرة مِن العبد إنّما هي باختياره وإقدار الله تعالى له على الفعل، فإن فعَل الخير والطاعة حمد الله على إقداره عليه وتوفيقه له، وإن فعل المعصية علم أنّه بسوء اختياره فيستغفر الله تعالى، ففي الصحيح عن أبي عبد الله "ع" قال:" الناس في القدر على ثلاثة أوجه: رجل زعم أنّ الله عزّ وجلّ أجبر الناس على المعاصي، فهذا قد ظلم الله عزّ وجلّ في حكمه وهو كافر، ورجل يزعم أنّ الأمر مفوّض إليهم فهذا وهن الله في سلطانه فهو كافر، ورجل يقول: إنّ الله عزّ وجلّ كلّف العباد ما يطيقون ولم يكلفهم ما لا يطيقون فإذا أحسن حمد الله وإذا أساء استغفر الله، فهذا مسلم بالغ والله الموفق" ([28]).
ومِن الواضح أنّ الالتزام بهدي أهل البيت "ع" هو الموافق لفطرة الإنسان المجبول عليها، ولذا يتصرّف الإنسان بشكل عفوي على أنّه مُختار ومع ذلك يحتاج إلى الإقدار على الفعل، ولذا تجد أنّ مِن خرج عن هدى أهل البيت "ع" خرج عن مُقتضى العقل، ومن أجل تأكيد أنّ دين أهل البيت "ع" دين الفطرة السليمة أنقل للقارئ العزيز هذه الحكايات:
حكي عن عدلي أنه قال لجبري: إذا ناظرتم أهل العدل قلتم بالقدر، وإذا دخل أحدكم منزله ترك ذلك لأجل فلس، قال: وكيف؟ قال: إذا كسرت جاريته كوزاً يساوي فلساً ضربها وشتمها ونسي مذهبه.
وصعد سلام القاري المنارة فأشرف على بيته فرأى غلامه يفجر بجاريته فبادر يضربهما فقال الغلام: القضاء والقدر ساقانا، فقال: لعلمك بالقضاء والقدر أحبّ ألي من كلِّ شيء أنت حر لوجه الله تعالى.
ورأى شيخ بأصبهان رجلاً يفجر بأهله فجعل يضرب امرأته وهي تقول القضاء والقدر، فقال: يا عدوة الله أتزنين وتعتذرين بمثل هذا؟ فقالت: أوه تركت السنة وأخذت مذهب ابن عباد الرافضي فتنبه وألقى السوط وقبّل ما بين عينيها واعتذر إليها وقال: أنت سنية حقاً.
ثمار الاعتقاد بالقضاء والقدر
إنّ الاعتقاد بالقضاء والقدر ضرورة لكلّ مؤمن في تحقيق إيمانه، كما أنّ القضاء والقدر لمّا كانا مِن الله تعالى فالعبد يدعو الله أن يُقدِّر له الرزق الواسع وغيره مما هو محبوب ومرغوب للعبد، ويبتهل إليه تعالى كي يدفع أو يرفع عنه ما يكره، فالاعتقاد بالقضاء والقدر يوجب توجّه العبد إلى ربّه وتضرّعه إلى باريه.
كما أنّ الاتكال على قضاء الله تعالى وقدره مما يُسعد الإنسان ويرفع عنه همّ حاضره ومُستقبله، ما دام مُعتقداً أنّ ذلك كلّه بيده تعالى، قال عزّ وجلّ: {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}([29]).
وروي عن أمير المؤمنين "ع" أنّه قال:" مَن أيقن بالقدر لم يكترث بما نابه" ([30]). "نعم الطارد للهم الاتكال على القدر" ([31]).
وغير ذلك مِن الفوائد المترتبة على الاعتقاد به.
الولوج في القضاء والقدر
القضاء والقدر لكونه مِن الأمور الإعتقاديّة الدقيقة التي لا يُمكن لأيّ أحد أن يخوض غمارها، ويسبر غورها، ولذا كان لزاماً علينا أن لا نتعدّى الهدي الذي ورد عن أهل بيت العصمة والطهارة "ع"، تجنّباً للزيغ عن الحق، ولقد نقلنا سابقاً الحديث المروي عن أبي عبد الله "ع" - وقد سئل عن الجبر والقدر - فقال: "لا جبر ولا قدر ولكن منزلة بينهما فيها الحق التي بينهما لا يعلمها إلا العالم أو مَن علّمها إياه العالم" ([32]).
كما أننّا لا بُدّ أن نقتصر منه على ما ورد عنّ أهل البيت "ع" ولا نُغرق فيه فنغلو في القضاء والقدر.
والغلو في القضاء والقدر هو أن يعتقد الإنسان أنّ أفعاله مِن الله تعالى والعبد لا اختيار له ولا قُدرة على فعل الأفعال، بل هو مُسيّر ومع ذلك فإنّ الله تعالى يُعذّب على الأفعال السيئة التي هي بإجبار الله تعالى، وهذا - بلا إشكال - فيه نسبة الظلم إلى الله تعالى، وهو كفر بالله تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً، فروي عن أمير المؤمنين "ع" أنّه قال: "ما غلا أحد في القدر إلاّ خرج من الإيمان" .
ولأننا أمرنا أن نؤمن بالقضاء والقدر فلابدّ مِن المعرفة ولكن علينا بتلك المعرفة المستقاة مِن عذب ماء نور الهدى الناطق به أهل بيت العصمة والطهارة "ع".
وعلى هذا يُحمل ما ورد مِن النهي عن الكلام في القضاء والقدر، وإلاّ فلا معنى للإيمان بشيء مَع عدم العلم به ولو إجمالاً.
ومِن تلك الروايات الناهية ما روي عن أمير المؤمنين "ع" أنّه قال لرجل قد سأله عن القدر، فقال:" بحر عميق فلا تلجه"
ثم سأله ثانية فقال: " طريق مظلم فلا تسلكه"
، ثم سأله ثالثة فقال: "سر الله فلا تتكلفه".
وقال "ع": " ألا إنّ القدر سرّ من سرّ الله، وستر من ستر الله، وحرز من حرز الله، مرفوع في حجاب الله، مطوي عن خلق الله، مختوم بخاتم الله، سابق في علم الله، وضع الله عن العباد علمه ورفعه فوق شهاداتهم، لأنهم لا ينالونه بحقيقته الربانية، ولا بقدرته الصمدانية ولا بعظمته النورانية، ولا بعزته الوحدانية، لأنّه بحر زاخر موّاج خالص لله تعالى، عمقه ما بين السماء والأرض، عرضه ما بين المشرق والمغرب، أسود كالليل الدامس، كثير الحيات والحيتان، يعلو مرّة ويسفل أخرى، في قعره شمس تضيء لا ينبغي أن يطلع إليها إلاّ الواحد الفرد، فمن تطلع عليها فقد ضادّ الله في حكمه، ونازعه في سلطانه، وكشف عن سره وستره، وباء بغضب من الله، ومأواه جهنم وبئس المصير".
وغيرها مِن الروايات التي ينبغي حملها على الولوج في القضاء والقدر بأكثر مما صدر عنهم "ع"، مِن أجل ألاّ تزيغ العقول وتتيه.
عود على بدء
مما تقدّم يتّضح الجواب جليّاً عن السؤال، فإنّ الإنسان عندما يتداوى أو يتجنّب أي شيء فيه ضرر عليه فإنّه لا يخرج مِن قضاء الله وقدره، فإنّ الله تعالى يعلم أنّ العبد يتداوى فيكتب عليه الصحّة بعد المرض، وأنّه سيتجنّب الشرّ فيدفع عنه الشرّ، وكلّ ذلك هو المُقدّر له، ولم يكن التداوي ردّاً لقدر الله بل هو المقدّر له، ولو أنّ العبد لم يتداوى فإنّ المقدّر له هو عدم التداوي، وليس بمعنى أنّ الله تعالى أجبره على ذلك، بل بمعنى أنّ الله تعالى قد علم ما الذي سيختاره العبد، ولذا يُقال: أنّ العلم كاشف وليس فاعلاً.
ختاماً
الكلام حول القضاء والقدر مما يطول فيه البحث، وهو مِن المباحث الكلاميّة الفلسفيّة التي تحتاج إلى الكثير مِن التدبّر والتأمّل، ولا يسعنا في حدود هذه الإجابة أن نستقصي الحديث حوله.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين المعصومين.
المصدر موقع مجلس الغدير
([1]) التوحيد للشيخ الصدوق ص382 باب القضاء والقدر ح 29.
([2]) سورة التوبة الآية (51).
([3]) ثواب الأعمال للشيخ الصدوق ص212، ومختصر بصائر الدرجات للحسن بن سليمان الحلي ص135.
([4]) التوحيد للشيخ الصدوق ص379.
([5]) الخصال للشيخ الصدوق ص203.
([6]) وذلك في عدّة روايات، راجع المحاسن لأحمد بن محمد بن خالد البرقي ج1 ص11، والكافي للشيخ الكليني ج2 ص293، والخصال للشيخ الصدوق ص338.
([7]) تحف العقول لابن شعبة الحرّاني ص231.
([8]) الكافي للشيخ الكليني ج1 ص157. ومختصر بصائر الدرجات للحسن بن سليمان الحلي ص149.
([9]) محاسن البرقي ص244.
([10]) راجع التوحيد للشيخ الصدوق ص385- 386.
([11]) سورة يوسف من الآية (68).
([12]) سورة الإسراء الآية (4).
([13]) سورة الحجر الآية (66).
([14]) سورة النمل الآية (78).
([15]) سورة غافر الآية (20).
([16]) سورة سبأ من الآية (14).
([17]) سورة الإسراء من الآية (23).
([18]) سورة فصلت من الآية (12).
([19]) سورة طـه الآية (72).
([20]) سورة القصص من الآية (29).
([21]) سورة القصص الآية (28).
([22]) سورة يوسف الآية (41).
([23]) محاسن البرقي ج1 ص244.
([24]) محاسن البرقي ج1 ص245.
([25]) التوحيد للشيخ الصدوق ص364. والمحاسن لأحمد بن محمد بن خالد البرقي ج1 ص245، وبصائر الدرجات لمحمد بن الحسن الصفار ص259، ومختصر بصائر الدرجات للحسن بن سليمان الحلي ص134.
([26]) الكافي للشيخ الكليني ج1 ص159، والتوحيد للشيخ الصدوق ص359، ومختصر بصائر الدرجات للحسن بن سليمان الحلي ص133.
([27]) الكافي للشيخ الكليني ج1 ص159.
([28]) التوحيد للشيخ الصدوق ص360، والخصال للشيخ الصدوق ص195، وتحف العقول لابن شعبة الحرّاني ص371 و460.
([29]) سورة التوبة الآية (51).
([30]) غرر الحكم: ح7202 و7438 و8934 و9961 و9921.
([31]) غرر الحكم: ح7202 و7438 و8934 و9961 و9921.
([32]) الكافي للشيخ الكليني ج1 ص159.