كلمة الأسبوع
12/04/2012
بسم الله وَالصلاة وَالسلام على المصطفى وَآله المعصومين
بعد مرور سبع وَخمسين سنة على رحيل آية الله الشيخ علي الجشي - طاب ثراه - مازالت المنابر الحسينية تصدح بشعره وَأدبه الحسيني القريض وَالنبطي، فما إن تمر ذكرى ميلاد البتول عليها السلام، حتى تسمع المنابر تغرد:
هي النورُ من نورٍ وَبالنورِ زُّوجت تبارك ربُّ فيهما جمع الخيرا
فنور علي قد غشى نور فاطمٍ فأولدها نجماً وَأعقبها بدرا
وَإذا مرّت ذكرى يوم دفن الحسين عليه السلام، سمعت الواعية:
حنى ظهره على ابوه حسين وَالله يعلم بحاله وَبدال الكفن وَالتابوت لفه ببارية وَشاله
وَكلما جرى ذكر القضاء الجعفري شنف سمعك ثناء آبائنا وَإجلالهم لصمود وَشموخ مواقف الحجة الجشي في الدفاع عن حريم القضاء الجعفري وَهذا ما يقتضي منا أن نفصّل الحديث لمعرفة الجهات المشرقة من تاريخ جهاد علمائنا الأبرار في سبيل الحفاظ على التشيع وَدعائمه وَشعائره في المنطقة.
لقدكان القضاء الجعفري في العقود الماضية يتميز بعدة مزايا مهمة:
الأولى: أن القاضي هو الفقيه المجتهد الجامع للشرائط المعروف بالتقوى وَالزهد وَهذا مايفتي به أغلب فقهائنا من اختصاص القضاء بالمجتهد دون غيره – نعم هناك من يجيز القضاء بالوكالة - وَالمثال الواضح للمجتهد الجامع للشرائط الحجة الجشي الذي رجع للقطيف عام سبع وَستين من القرن الماضي متوجاً بشهادة الإجتهاد المطلق من فقيه عصره الإمام الحكيم – قده - وَتسنّم القضاء وَهو أهله لمعروفيته بالفقاهة وَالتقوى وَالزهد وَالإعراض عن الدنيا وَزخارفها وَالتنزه عن أوساخها وَهذا ما حدا بالحجة الشيخ فرج العمران – قده – أن يعبّر عن الثقة التامة بأهلية الجشي للقضاء بقوله عند استقباله بعد عودته من النجف:
شعت بساطعِ نورك الأوطانُ وَزهت بغرة وجهك الأزمانُ
هذا القضا بك يستغيثُ فلبِّه فلَكَ الرياسة فيه وَالسلطانُ
هذا القضاء بالأمس وَانظر وَابكِ دماً لما آل إليه القضاء اليوم
الثانية: أن القضاء في الزمن الماضي لم يكن وظيفة في الدولة بل كان زعامة للمنطقة، يتحمل القاضي على ضوئها مسؤولية خطيرة وَهي مسؤولية الدفاع عن حريم المذهب وَعقيدة التشيع وَالشعائر الحسينية وَحقوق الطائفة، وَهذا ماتحدث به آبائنا عن الجهاد المرير الذي خاضه علمائنا الابرار في هذا السبيل ممن في القضاء وَغيرهم كالحجة الشيخ حسن علي البدر وَالحجة الشيخ محمد النمر وَالعلمين الزعيم الخنيزي وَالإمام الخنيزي وَأمثالهم من علماء الطائفة في الأحساء كآية الله السيد ناصر السلمان وَالحجة السيد محمد العلي وَالحجة الشيخ موسى بوخمسين وَآية الله الشيخ الهاجري – قدست أسرارهم - وَمالمسناه بأنفسنا في شخصية العلامة الخطي - طاب مثواه - الذي كان مثالاً حياً للنضال في سبيل حفظ التشيع وَإعلاء شأنه وَإعلان الشهادة الثالثة في المآذن وَالمطالبة بالحقوق المشروعة للطائفة.
وَلولا الجهودالجبارة وَالدفاع المستميت لهذه الصفوة من علمائنا لم يبق كيان المذهب وَشعائره شامخة تتحدى الأعاصير إلى يومنا هذا، وَمن طليعة هذه الكوكبة الصامدة آية الله الحجة الجشي الذي وصفه العلامة الحجة الشيخ حسين العمران – دام مؤيداً – بقوله:
وَمن كمثل علي في الصمود على مر المكاره منه الصبر قد عجبا
عدل القضا لا يبالي في القضاء وَإن كان القضاء على رحم له قربا
فإنه بلغ من الحزم وَقوة الإرادة أنه كان يصدر قراره وَحكمه في القضايا المختلفة دون مبالاة برحم أو صديق أو حتى بالقرار الرسمي حتى تآلب عليه مجموعة من الناس وَطالبوا الدولة بعزله وَجاء قرار العزل له من قبل الإمارة في الاحساء فقال بكل قوة وَصلابة لرسول الإمارة "قل لعمّك ابن الجلوي أنه لا يقدر على عزلي فإن الذي نصبني قاضياً هو الامام جعغر بن محمد عليه السلام، وَهو الذي يعزلني وَلم أنصب من قبل الدولة حتى تقوم بعزلي" وَاستمر في قضائه يتحمل كل الأذى وَالضيم صامداً يواجه العواصف بإرادة حديدية صلبة.
الثالثة: لقد كان القاضي في السابق منتخباً من قبل العلماء وَرجالات البلد لا معيناً من قبل الدولة وَإنما تمضي الوزارة ما اختاره المجتمع وَكان القضاء في العقود الغابرة قضاءاً مستقلاً كامل الصلاحيات نافذاً في صكوكه وَما يصدر منه في الأوقاف وَالمواريث وَجميع العقود وَالإيقاعات وَفض الخصومات وَالمنازعات، ثم حُجّم وَقُلّص لمحكمة الأوقاف وَالمواريث، ثم سُلِخ عن كونه قضاءاً وَأصبح دائرة لا نفوذ لها في غير الأنكحة وَالطلاق وَلا قيمة لها إلا أن تكون غرفة صغيرة في المحكمة الكبرى وَلذلك انبرى جمع من الغيارى على هذا المنصب منذ عهد العلامة الخطي إلى هذه الساعة للدفاع عن حريم القضاء الجعفري،
وَمن الموضوعية وَالإنصاف وَتثمين الجهود لأهلها أن نثني ثناءاً بالغاً على المواقف الصامدة وَالجهود المضنية التي بذلها السابقون من علماء البلد وَرجالاته وَمايقدمه علماء وَرجال اليوم في حواراتهم مع المسؤولين من دفاع مشرف عن استقلال القضاء الجعفري وَتوسيع صلاحياته وَمتابعة هذا الملف دون كلل أو ملل.
لقد رحل الحجة الجشي عام ست وَسبعين من القرن الماضي وَترك للاجيال درساً هاماً من خلال سيرته وَشعره وَنثره أن الهدف الأول للعلماء العاملين نصرة التشيع وَالدفاع عن العقيدة وَدعم الشعائر وَترسيخ مظاهر الولاء لاهل البيت عليه السلام، وَتثقيف المجتمع من خلال المنبر وَالمسجد بالعقيدة الرصينة وَالأحكام الشرعية وَتربية الأمة على الالتزام بالقيم الإسلامية وَالذب عن حريم الطائفة وَحقوقها التامة وَقول الحق وَالحكم به وَالثبات عليه وَلو كلف جفاء الصديق وَبعد القريب.
نعم رحل المقدس الجشي لجوار الحسين عليه السلام، الذي طالما رثاه بدمعه وَشعره وَخروجه ضمن حشود المعزين من المأتم وَكان يوم وفاته كما وَصفه من عاشه يوماً حزيناً وَصدح المرحوم الشاعر أبو رياض الجشي في رثائه:
مامت أنت فأنت حي ترزقُ لكنما الوطن الجريح ممزقُ
نعم مازال البلد الغالي جريحاً ممزقاً نسال الله له النهوض وَالرفعة وَالحمدلله رب العالمين
شبكة المنير